عبد الرحمن الكواكبي وكتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”

عبد الرحمن الكواكبي وكتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”

بي بي سي يُعتبر عبد الرحمن الكواكبي أحد أبرز المفكرين الإصلاحيين في العالم العربي خلال القرن التاسع عشر، حيث عُرف بمناهضته للاستبداد السياسي ودعوته إلى النهضة الفكرية في فترة كانت فيها الدولة العثمانية تمر بأزمة عميقة، بينما كانت المجتمعات العربية تعاني من تراجع حضاري ومد استعماري متصاعد، لم يكن الكواكبي مجرد صحفي أو كاتب بل كان مشروعاً فكرياً متكاملاً ترك أثراً بالغاً في الوعي العربي الحديث
تناول الكواكبي في كتاباته عدة قضايا محورية، في مقدمتها الاستبداد السياسي الذي رآه أصل كل فساد، وكتب حوله مؤلفه الشهير “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” محذراً من أثر الاستبداد على الدين والعلم والأخلاق
كما دعا إلى تحرير العقل الإسلامي من الجمود وإحياء فكر الشورى وربط الإصلاح الديني بالإصلاح السياسي والاجتماعي وتطرق إلى علاقة الدين بالدولة وضرورة فصل السلطتين مؤمناً بأن الدين يجب أن يكون محررِاً لا أداة قمع
توفي الكواكبي في 15 يونيو/ حزيران من عام 1902 بعد حياة قصيرة ولكن غنية بالعمق الثقافي والفكري وقد نُقش على قبره بيتان لحافظ إبراهيم:
هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى هنا خير مظلوم هنا خير كاتب
قفوا وأقرأوا أم الكتاب وسلموا عليه فهذا القبر قبر الكواكبي
البدايات
تقول دائرة المعارف البريطانية إن عبد الرحمن الكواكبي وُلد في حلب بسوريا عام 1855 حيث تلقى تعليمه وعمل صحفياً حتى أجبرته السلطات العثمانية على الانتقال إلى القاهرة عام 1898 لينضم إلى دائرة المثقفين العرب المحيطين بمحمد عبده ورشيد رضا
أفادت مصادر عديدة بأن عبد الرحمن بن أحمد بهائي بن محمد بن مسعود الكواكبي وُلد في أسرة ذات نسب شريف يعود إلى آل البيت وكان والده عالماً في الشريعة والقضاء
نشأ الكواكبي في بيئة دينية وعلمية وتلقى علومه الأولى في المدارس التقليدية حيث درس النحو والفقه والحديث ثم التحق بالمدرسة العثمانية حيث تعلّم التركية والفارسية والعلوم الحديثة
تأثر في بداياته بتنوع مصادر المعرفة التي تلقاها مما أهّله لاحقاً ليتبوأ مكانة بارزة في ساحة الفكر العربي النهضوي
وفي أواخر القرن التاسع عشر بدأ الكواكبي حياته العملية ككاتب وصحفي في حلب وشارك في تحرير جريدة “الفرات” الرسمية ثم أسس جريدة “الشهباء” التي كانت من أوائل الصحف الخاصة في سوريا العثمانية
عبر الكواكبي من خلال “الشهباء” عن أفكاره الإصلاحية منتقداً البيروقراطية العثمانية والفساد الإداري داعياً إلى النهضة العربية ضمن إطار إسلامي تحرري لكن سلطات الدولة لم تتساهل مع انتقاداته فأغلقت الجريدة ولم يستسلم الكواكبي وأصدر جريدة أخرى باسم “الاعتدال” والتي أغلقها العثمانيون أيضاً
أدت أفكار الكواكبي إلى استقالته من العديد من المناصب التي تولاها حيث عمل رئيساً لكتّاب المحكمة الشرعية وقاضياً شرعياً ثم تولى رئاسة بلدية كما عمل أيضاً كاتباً فخرياً للجنة المعارف ثم مأمور الإجراء (رئيس دائرة التنفيذ العدلية) وبعد استقالته من المناصب الرسمية عمل محامياً
عندما اتهمته السلطات العثمانية بالتخابر مع دولة أجنبية صدر الحكم عليه بالإعدام فبعث إلى السلطان عبد الحميد الثاني يشكو اضطهاد الوالي وبعد عدة رسائل تم نقل محاكمته إلى بيروت حيث صدر الحكم ببراءته وعندما اشتدت ضغوط العثمانيين عليه شد الرحال لمصر عام 1898.
طبائع الاستبداد وأم القرى
بدأ الكواكبي نشر مقالاته بعد وصوله القاهرة بجريدة المؤيد لصاحبها علي يوسف عن الاستبداد وعن جمعية أم القرى وقد جمع المقالات لاحقًا في كتابين عُرفا فيما بعد باسم “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” و”أم القرى”، وقد وقع كتبه كما كان يوقع مقالاته باسم “الرحالة كاف”
يقول عباس محمود العقاد إن عبد الرحمن الكواكبي اهتم طوال حياته بقضيتين رئيسيتين هما الحرية ومقاومة الاستبداد وحال الأمة الإسلامية وتفرّعت عنهما بالطبع مجموعة مختلفة من القضايا الأخرى الأمر الذي جعل منه واحدًا من المجددين المشهودين
تميز الكواكبي عن مفكري عصره بتركيزه العميق على مفهوم “الاستبداد” الذي رآه العدو الأول لكل إصلاح أو نهضة وهو ما عبّر عنه بوضوح في كتابه بهذا الشأن
اعتبر أن الاستبداد السياسي لا يؤدي فقط إلى قمع الحريات بل يدمر التعليم والدين ويشوّه القيم الاجتماعية ويمنع تطور العلوم لذلك دعا إلى مقاومته بالوعي والتثقيف
يرى أن الدين الإسلامي يدعو جوهره للحرية والعقلانية لكن الاستبداد السياسي قد استغل الدين ليكرّس سلطته ما أدى لما يسميه “الاستبداد الديني”، وهو خضوع الناس لتفسيرات مغلقة للنصوص تنتجها مؤسسات دينية مرتبطة بالسلطة
وضع نفسه بذلك ناقدًا للسلطتين السياسية والدينية واعتبر أن الإصلاح الحقيقي لا يتحقق إلا بالفصل بين الدين والدولة وتجديد الفكر الديني
يقول: “الاستبداد لو كان رجلاً، وأراد أن يحتسب وينتسب، لقال: أنا الشرُّ، وأبي الظلم، وأمّي الإساءة…” ويتحدث عن الاستبداد قائلاً: “هو صفة للحكومة المطلقة التي تتصرف بلا خشية حساب ولا عقاب محققين”
“أشد مراتب الاستبداد هي حكومة الفرد المطلق”“والمشكلة أن فناء دولة الاستبداد لا يصيب المستبدين وحدهم بل يشمل الدمار الأرض والناس والديار”
“إن المستبد يتخذ الممجدين سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين أو حب الوطن”
“المشكلة أن دولة الاستبداد تضرب ضرب عشواء وتحطم نفسها قبل أن تستسلم للزوال”
< وفي كتاب آخر بعنوان "أم القرى" تناول الفساد السياسي والفكري عند الشعوب المسلمة مستخدمًا أسلوب روائي تخيلي ليقدم رؤيته للإصلاح متخيلاً مؤتمراً يعقد بمكة المكرمة يضم علماء ومصلحين“وقد أتاح له هذا الأسلوب تمرير رسائله الفكرية بطريقة غير مباشرة”“على الرغم من أنه لم يكن مفكرًا سياسيًا تقليديًا إلا أن كتاباته تُظهر فهما دقيقا لبنية السلطة وأساليب عملها”
< برع أيضًا بأسلوب الكتابة إذ جمع بين اللغة الأدبية الراقية والسخرية الذكية مما جعل كتبه مقروءة على نطاق واسع حتى خارج الأوساط المثقفة واستخدم أسلوبًا استقصائيًا يعتمد على تفكيك الظواهر وتحليل جذورها مما جعل الكتاب يُقارن بأعمال فلاسفة التنوير الأوروبيين.
“تحرير العقل والمواطنة”“يعد ما طرحه حول ضرورة تحرير العقل أحد أهم دعائمه الفكرية”, فهو يرى أنه لا يمكن للمجتمعات العربية والإسلامية النهوض دون التحرر من الجهل والخوف وأن يمارس الفرد النقد والتفكير المستقل وكان يعتبر العقل هبة إلهية مستندًا بذلك على القرآن والحديث ضد أولئك الذين يروجون للخنوع والتقليد باسم الدين.

وفي رؤيته للنهضة لم يضع الغرب نموذجًا مطلقًا رغم إعجابه ببعض آليات الدولة الحديثة فقد انتقد بشدة الاستعمار معتبراً إياه وجهًا آخر للاستبداد ودعا لنهضة ذاتية تنبع من الداخل تعتمد على التراث النقدي للإسلام وتستفيد من التجارب الحديثة دون الخضوع لها ولذلك اعتبر بعض الباحثين أنه يعد واحداً من منظّري النهضة البديلة.“كما كان للكواكبي مواقف مبكرة بشأن فكرة المواطنة”, حيث تحدّث عن ضرورة المساواة بين جميع أفراد الأمة مسلمين وغير مسلمين وكان يُدافع عن مشاركة الأقليات دون تمييز وهو ما اعتبر تعبيرا عن رؤيته المدنية للمجتمع بعيدة عن الانغلاق الطائفي أو القومي وفق عزمي بشارة.“وفيما يتعلق بالحكم كان يؤيد الشورى الدستورية التي تجمع بين القيم الإسلامية وآليات الحكم الحديث”, وقد دعا لوضع دساتير مكتوبة لتنظيم السلطات وضمان حقوق المواطنين وانتقد الحكم الفردي الوراثي السائد ورأى أن النظام البرلماني هو الأقرب لروح الشورى إذا تم تكييفه مع الخصوصيات الثقافية الإسلامية.

ولم يكن مُصلحا معزولاً بل حاول دائماً التوفيق بين النظرية والممارسة رابطاً بين إصلاح الدولة وإصلاح المجتمع وبين تحرير الأوطان وتحرير الضمائر معتبرًا أن الاستبداد لا يسقط إلا حين يقرر الناس أنهم ليسو عبيداً بل أحرار. ويربط بوضوح بين فكرة الاستبداد الداخلي والهيمنة الخارجية قائلاً إن الأمة المستبَد بها داخليًّا تكون فريسة سهلة للاستعمار الأجنبي وقد سبقت هذه الفكرة ما سيعرف لاحقًا بـ”الاستعمار المركب”.“ساهم فكرالكواتي بشكل كبير التأثير على الحركات الإصلاحية العربية بداية القرن العشرين.”, خاصةً بمصر وسوريا ولبنان حيث استخدمت أفكار لتحقيق استقلال البلاد والدعوة للدساتير وتأسيس مؤسسات تمثيلية.

كان العديد ممن تأثر بفكره هم الصحفيون والمثقفون العرب الذين أعادو طباعة مؤلفاته ونشرها سرًّا تحت الرقابة الصارمة.

في العصر الحديث طُرح فكره ضمن الحوارات حول الديمقراطية وحقوق الإنسان بالعالم العربي وقد طُبعت مؤلفاته مرارًَا وأدرجت نصوص بعض الجامعات وتم دراسة أفكارهم برسائل أكاديمية تناولت موضوع الإستبادة بالفكر السياسي العربي.

سبق نقد كل استخدام للاستغلال باسم الدين لإضفاء الشرعية للطغيان مثل علي عبد الرازق الذي كتب عشرينات القرن الماضي ضرورة الفصل بين الدولة والدين.

لقد قام برحلة استغرقت ستة أشهر زار فيها شرق أفريقيا وشبه الجزيرة العربية بينما كانت دراسته تشمل الاقتصاد والأرض والثقافات ولكنه توفى فجأة يوم 15 يونيو/حزيران عام 1902 بالقاهرة ودُفن بمكان مهيب بدفن باب الوزير بسفح جبل المقطم.

بعد وفاته اختلفت التفسيرات حول فكره, فرأى البعض فيه مُبشرا بالقومية العربية بسبب نقد الهيمنة التركية بينما اعتبر الإسلاميون رائد لفكر الشورى وبينما ركز الليبراليون على دعوته للفصل بين السلطة الدينية والسياسية وهذا التنوع يدل على غنى أفكارهم وقابليتها للتفاعل مع مختلف المدارس الإصلاحیة.

اليوم ومع تجدد معاناة العالم العربي يبدو فكرالكواتي أكثر حضورًَا, فتحليله لبنية الإستبادة ودعوته لإصلاح جذري وشامل تجعل منه واحدًَا من أبرز المفكرین العرب الذين سبقو عصرهم.

لم يكن مجرد ناقد لما هو قائم بل كان يحمل مشروع كامل لإعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس جديدة تدعو لحكومة دستورية مدنية يتساوى فيها المواطنون ويجب فصل السلطات وتقيد سلطة الحاكم وتوفير التعليم والصحة للجميع“ترك بصمة عظيمة رغم وفاته المبكرة وكلماتهم تُتناقل بأدبیات الاصلاح.”.

قد يهمك أيضاً :-